يعبر عشرات الناجين من الحصار والموت في بلدتي الفوعة وكفريا، خلال كل عملية تبادل وإجلاء، رحلة طويلة داخل مناطق سيطرة «جيش الفتح» في محافظة إدلب السورية وصولاً إلى اللاذقية فدمشق. الرحلة التي تشبه عبور حقل من الألغام، لا تنهي قصص الألم والمعاناة لدى عشرات الخارجين من أكبر السجون البشرية في سوريا، وهما الفوعة وكفريا. أبناء البلدتين الخارجين في الدفعة الأخيرة من عمليات التبادل، استقروا مؤخراً في بناء من سبع طبقات قيد الإنشاء يتوسط شارعاً يمتد من أطراف بلدة الذيابية إلى أطراف السيدة زينب في ضواحي دمشق. المبنى المتواضع تغيرت ملامحه بالكامل لحظة حدوث التفجير الأخير في السيدة زينب. حكاية المعاناة تجددت وفتحت الجراح الملتئمة من جديد. الغرف الصغيرة للجرحى المطلة على الشارع الرئيسي أحيلت رماداً أسود، النوافذ تهشمت بالكامل وعرّت المساكن المؤقتة لمجتازي الحصار. حرائق اندلعت في المكان عقب التفجير، وعلى طول الأدراج المؤدية إلى الطوابق العليا دماء حديثة لأكثر من 20 مصاباً لم تشفع لهم أجسادهم المعطوبة وجراحهم العميقة أصلاً، من أن ترسم الحرب خريطة جراح جديدة.
في المبنى 348 ناجياً من الحصار في الفوعة وكفريا، نصفهم مصاب والآخرون خرجوا كمرافقين لجرحاهم. غالباً ما يترك هؤلاء خلفهم أماً أو بنتاً أو أشقاء ويخرجون بجراحهم البليغة التي وضعتهم على قائمة من له أسبقية الخروج من البلدتين اللتين ظلتا صامدتين إلى الشمال من عاصمة «جيش الفتح».. إدلب. حسن قاسم طبيخ، خرج من الفوعة برفقة والده، ترك أمه وشقيقاته وإخوته في الداخل. في هجوم واحد على الفوعة في 18 أيلول الماضي خسر حسن أخاه الشقيق، وعينه اليمنى أثناء تفجير المسلحين عربة «بي أم بي». لكن أعظم خساراته في ذاك اليوم، هو فقدان أطفاله الثلاثة قاسم (16 سنة) وهادي (9 سنوات) وحيدر (8 سنوات)، عندما دهستهم دبابة للمسلحين عند أحد السواتر الترابية حيث كان الأطفال الثلاثة يذخرون المخازن للمقاتلين أثناء صد الهجوم. بقي حسن تحت الأنقاض عقب انفجار المفخخة لساعات، وعندما تم انتشاله بقي في المستشفى ثلاثة أيام، قبل أن يعرف أنه فقد أطفاله الثلاثة ونصف نظره. يقول حسن «خرجت من الفوعة عندما لم يتبق لي أحد، ولا شيء هناك». وأضاف «عندما وقع الانفجار (في الذيابية) تطايرت الجثث أمامي على الحاجز. ركضت لإسعاف المصابين وإنقاذ الضحايا. حملت طفلاً مصاباً وتذكرت أطفالي. كل ما تمنيته يوماً أن أستطيع حمل أبنائي عندما قتلوا جميعاً، لكن الدبابة التي دهستهم سحقتهم بالكامل». ويروي أحمد خانم، حارس المبنى الذي يقيم فيه أهالي الفوعة وكفريا، أنه شاهد الجثث المتطايرة لحظة الانفجار، لكنه لم يستطع لملمتها، كما لا يستطيع أن يركض بقدم واحدة. فقد أحمد ساقه في حقبة الحصار في الفوعة، أصيب بطلقة قناص في قدمه، ومع فقدان الأدوية والمسكنات واستحالة إجراء عمليات جراحية متقدمة، تم بتر ساقه بالكامل.
أما جميلة كردي (23 عاماً)، لم تلبث أن أزالت الضمادات الطبية عن عينيها، حتى لفت رأسها بضمادة أخرى عقب التفجير الأخير. بدت جميلة ممتنة لعدم تمكنها من رؤية الأشلاء والدماء. تعزي الفتاة نفسها بذلك، لكنها سرعان ما تختنق بالدموع وهي تروي قصتها: «أثناء قصف المسلحين للبلدة، سقطت جرة مدفع جهنم قربي عندما كنت حاملاً، نجا جنيني لكنني فقدت عيني الاثنتين جراء شظيتين». أنجبت جميلة طفلتها بعد أشهر، لكنها حرمت من رؤية وجهها إلى الأبد. تعود جميلة للامتنان لعينيها المطفأتين «لولا إصابتي بالعمى لما تمكنت طفلتي من الخروج من هناك». في الفوعة لا يمكن وصف حال الأطفال، بعضهم بدأت تسقط أظافرهم وأسنانهم بسبب نقص الكلس الحاد، وكل الأطفال تقريبا ينتعلون أحذية مهترئة. تلقي الطائرات إلى 22 ألف مدني في الفوعة وكفريا عبر المظلات بعض الحاجات الضرورية، وفي كل مرة تستهدفها المجموعات المسلحة في القرى المجاورة بشتى أنواع السلاح. الرياح تلعب دورها في رحلة هبوط المظلات، ومن بين كل 10 مظلات تلقى من السماء تصل إلى الأهالي اثنتان بمعدل وسطي. لا يشبه حصار الفوعة وكفريا التجارب المماثلة للمناطق المحاصرة في سوريا، نبل والزهراء، دير الزور، الزبداني ومضايا. الحصول على السلع الرئيسية من مناطق المسلحين مستحيل هنا، لا منافذ برية أو جوية للأهالي، سوى ما بات يدخل إلى القريتين عبر قافلات الأمم المتحدة والصليب الأحمر، التي تأتي دوماً دون التوقعات، فإن الحشائش باتت المصدر الرئيس للطعام.
وكانت ميليشيا «جيش الفتح» فرضت حصاراً خانقاً على بلدتي الفوعة وكفريا اللتين تتبعان لناحية بنش بريف إدلب منذ 28 آذار العام 2015، بعد أربعة أيام من القتال تمكن خلالها مسلحون من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «جند الأقصى» وفصائل أخرى من السيطرة على محافظة إدلب. وكان تفجير ضرب منطقة السيدة زينب في ريف دمشق الجنوبي الإثنين الماضي، أودى بحياة 15 مدنياً وإصابة حوالي 40. وتبنى تنظيم «داعش» هذا التفجير الذي يعد الثالث من نوعه هذا العام في ذات المنطقة، ومع تكرار الحوادث الأمنية والعمليات الانتحارية يرجح مصدر أمني لـ «السفير» أن يكون منطلق السيارات المفخخة والانتحاريين الذين نفذوا مؤخراً عمليات انتحارية في السيدة زينب بريف دمشق الجنوبي هو ريف السويداء، مؤكدا أن قوافل تابعة لتنظيم «داعش» الذي عادة ما يتبنى الهجمات الإرهابية في المنطقة، تعبر بشكل متواتر من الرقة باتجاه منطقة تل دكوة وبئر القصب في أقصى ريف دمشق الشرقي وصولاً إلى ريف السويداء الشمالي، ويعد هذا الممر في البادية السورية المترامية معبراً نشطاً لتحركات «داعش» ما بين وسط البلاد وجنوبها، وتبعد السويداء قرابة 60 كيلومتراً عن أطراف دمشق.