تشير ورقة استراتيجية ظهرت حديثاً إلى أن الكرملين يريد العثور على حل سياسي مع الغرب لقضية سورية. ويتصاعد الضغط على فلاديمير بوتين نتيجة لتحطم الطائرة الروسية، الذي ربما نجم عن هجوم إرهابي. ظل فلاديمير صامتا بشكل غريب في الأيام الأخيرة. وعلى الرغم من مرور نحو أسبوعين على تحطم طائرة الركاب الروسية فوق شبه جزيرة سيناء، قال الرئيس الروسي القليل عما يمكن أن يكون قد تسبب بالحادث، على الرغم من تراكم الأدلة التي تشير إلى هجوم إرهابي نفذه فرع “الدولة الإسلامية” الذي ينشط في المنطقة. ومع ذلك، لم ينطق بوتين بكلمة واحدة، حتى تاريخ نشر هذا الموضوع، عن رد فعل محتمل أو ضربات انتقامية ربما تنفذها بلاده. وعندما علَّقت روسيا رحلاتها إلى مصر، جعل رئيس مخابراته يعلن الخبر بدلاً من إعلانه بنفسه.
يبدو الأمر كما لو أن بوتين يريد إقامة أكبر مسافة ممكنة بينه وبين حادثة التحطم، بغية منع إقامة أي صلة بين تدخل روسيا العسكري في سورية وبين وفاة 224 من مواطنيه في الرحلة رقم 9268. وهو لا يريد أن يُنظر إليه على أنه رئيس يقوم بمغامرة عالية المخاطر في الخارج، والتي أتت أخيراً بنتائج عكسية وحولت شعبه نفسه إلى أهداف للإرهابيين.
حتى الآن، لم تكن هناك أي احتجاجات أو دعوات إلى إنهاء التدخل الروسي في سورية، كما لم تكن هناك الكثير من المقاومة، باستثناء الصندوقين الخشبيين الذين عاما في قناة مائية في سانت بطرسبرغ، المدينة التي أتى منها معظم ضحايا الطائرة. وقد كتبت على أحد الصندوقين برذاذ الدهان كلمات “من أجل ماذا؟” وعلى الآخر كلمات “من أجل من؟” مع ذلك، يصنع الاشتباه بوجود هجوم إرهابي استهدف الطائرة ضغطاً على بوتين. وإذا ما تأكد الشك أخيراً بأن مؤيدي “الدولة الإسلامية” استطاعوا تهريب قنبلة من خلال الأمن المصري وإلى الطائرة، فإن ضغطاً كبيراً سيوضع على بوتين ليتصرف. ولذلك ظل صامتاً حتى الآن، ربما كطريقة لشراء الوقت.
لكن روسيا قلقة، ومن السهل رؤية هذا المقدار على الأقل. ولن تفعل التقارير القادمة من الجبهة وتعرض كل ليلة على شاشة التلفاز وتتبجح بنجاح العملية الروسية في سورية، أي شيء لتغيير ذلك. والحقيقة هي أن هجوم الأسد في سورية لا يكاد يحرز تقدماً، حتى مع الدعم الروسي الهائل. كما اهتز استقرار الشعب الروسي أيضاً بسبب التقارير التي أفادت بأن 18 مهاجماً انتحارياً تسللوا إلى داخل بلدهم وأنهم يخططون للقيام بأعمال إرهابية هناك. وفي رد الفعل، تمت زيادة التدابير الأمنية في الأماكن العامة وفي محلات التسوق الكبيرة في مختلف أنحاء البلاد.
على هذه الخلفية، ليس الوقت سيئاً الآن لمحاولة الدفع مرة أخرى بحل سياسي للصراع السوري، والذي تكون روسيا هي قوته المحركة على طاولة المفاوضات. وهناك اثنتان من أوراق الاستراتيجية الداخلية، حصلت “شبيغل” على واحدة منهما، والتي تبين أن هذا هو الحل الذي يفضله الكرملين أيضاً. وتصف الوثيقة المكونة من صفحة واحدة استراتيجية بوتين في سورية في خمس نقاط. وكان الرئيس نفسه قد صاغ الورقة مع مستشاريه قبل وقت قصير من زيارة بشار الأسد المفاجئة لموسكو يوم 21 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
لا تتضمن الورقة تاريخاً أو توقيعاً؛ وهي تناقش مسألة التوصل إلى تفاهم مع الغرب. وفي الورقة، يُعرف بوتين “منع الإرهابيين من الاستيلاء على السلطة في سورية” على أنه الهدف المركزي. ويجب أن يبقى البلد “ذا سيادة، وأن تتم المحافظة على سلامة أراضيه”، وينبغي أن يظل “دولة ديمقراطية وعلمانية”. وهو هدف يتقاسمه الغرب أيضاً، حتى مع أن سورية لا يمكن أن تكون أبعد عن أن تكون ديمقراطية مما هي في الوقت الراهن.
تشير الورقة إلى أن الرئيس الروسي يأمل أن يبدأ عملية تفاوض بهدف “إجراء انتخابات واصلاحات للدستور، والتي تخلق توازناً عادلاً فيما يتعلق بحقوق وواجبات كافة الجماعات العرقية والدينية”. ويوضح الكرملين أيضاً أنه لن يصر على التسمك بالأسد كزعيم لسورية، ويعرض بذلك انفتاحاً ظاهراً على واحد من مطالب الغرب الأساسية. وفي وثيقة ثانية ظهرت الأسبوع الماضي، قدم دبلوماسيو موسكو صيغاً أكثر واقعية حول مواصفات الرئيس الروسي للمفاوضات السورية التي تجري حالياً في فيينا. ويشارك ممثلون عن الولايات المتحدة وروسيا وإيران وبضع دول أخرى في المحادثات. ووفقاً للوثيقة، يجب وضع دستور جديد ليصوت عليه الشعب السوري في غضون 18 شهراً. كما تدعو الوثيقة أيضاً إلى تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مخططة في ربيع العام 2016، ثم إقامتها بعد ذلك بالتزامن مع انتخابات رئاسية بعد الموافقة على الدستور المعدل.
ما لا تنص الوثيقة عليه هو كيف يمكن إجراء استفتاء وانتخابات في بلد مقسم ومدمر، والذي يروعه الجهاديون. لكن هناك شيئاً واحداً تنص عليه الوثيقتان بكل وضوح: رغبة بوتين في التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية تتزايد. كما أنه يريد استخدام المفاوضات أيضاً لإعادة تأسيس نفوذه داخل المجتمع الدولي. مناورة بوتين: استعادة مكانة روسيا كقوة عالمية إذا قُيض له أن ينجح في الدفع بـ”مؤتمر سورية” تحت رعاية الأمم المتحدة، كما صيغ في الورقة، فإنه سيبين للعالم كله أن روسيا قد استعادت مكانتها كقوة عالمية. وسوف يُنظر إلى بوتين حينئذ على أنه الرجل الذي أنقذ سورية. ويمكن أن يأمل حينئذ أيضاً في إنهاء العقوبات الغربية المفروضة ضد روسيا وصرف الانتباه المحلي عن هدفه المعلن المتمثل في الإبقاء على أوكرانيا داخل منطقة النفوذ الروسي. أما إذا كان ذلك سينجح في المرور، فهو شأن بعيد عن اليقين بطبيعة الحال. وكان بوتين يأمل في حمل الرئيس الأميركي باراك أوباما معه على متن المركب –كما كان قد فعل قبل سنتين بمبادرته للتخلص من الأسلحة الكيميائية السورية- لكن أوباما تجاهله في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر). وتتسم مواقفهما تجاه سورية بالتباين الشديد بكل بساطة. ولكن بوتين لن يتمكن من النجاح في تطبيق استراتيجيته من دون الدعم الأميركي. تقول ورقة الكرملين: “يجب اتخاذ تدابير وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2199 لوقف تجارة الدولة الإسلامية غير الشرعية بالنفط ولتحرير حقول النفط التي احتلها الإرهابيون”.
ويقول خبير شؤون الشرق الأوسط المقيم في موسكو، فلاديمير إيساييف: “بطبيعة الحال، يعني هذا أيضاً أن على أميركا ممارسة الضغط على شريكتها في الناتو، تركيا، من أجل حرمان مجموعة الدولة الإسلامية من القدرة على الاستمرار في بيع النفط الذي يتم تهريبه عبر تركيا”. م ع ذلك، يبدو أن بوتين يعتقد بأنه سيتمكن من إقناع حتى الدول السنية في المنطقة بدعم خطته، على الرغم من تحالفه مع إيران الشيعية ونظام الأسد العلوي. وكان يعمل بشكل منهجي على تحسين العلاقات مع مصر، والسعودية، والأردن وتركيا، وكلها دول ذات أغلبيات سنية. كما يبدو أنه يريد التخلي عن حصاره لمجموعة أصدقاء سورية، التي تشارك فيها الدول السنية. ويبدو أنه يريد احتواءها بدلاً من ذلك، بادعاء أن الفكرة هي فكرته هو. وتتحدث الوثيقة عن تشكيل “مجموعة دعم لسورية”، والتي ستضم –بالإضافة إلى روسيا- الأعضاء الآخرين البارزين في مجلس الأمن الدولي، وأكثر الدول أهمية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وألمانيا.
مع ذلك، لن تفعل مثل هذه الخطط شيئاً في الوقت الحاضر لتغيير حقيقة أن هناك نحو AA50 طائرة مقاتلة روسية، بالإضافة إلى الطائرات العمودية وقوات النخبة التي تعمل في سورية. كما يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كان انتشار روسيا العسكري هناك سيبقى محدوداً أم أنها سترسل قوات برية. ويقول المحلل إساييف: “لقد تعلمنا درسنا في أفغانستان. إننا ننشر الأسلحة من أجل الدفع بحل سياسي”.