تكشف الأعمال الإرهابية الأخيرة في مالي وباريس وسيناء عن أن "جنّي" الإرهاب خرج من قمقمه، وأن بقعة الدماء تتوسع لتعبر الحدود وتغيرها وتخرق كل الإجراءات الأمنية.
ويدفع العالم ثمن التدخل الفرنسي في مالي منذ نحو ثلاثة أعوام، عندما أرسلت 3500 جندي في محاولة لإعادة الاستقرار بعد تمرد للطوارق عام 2012 استغله جهاديون على صلة بتنظيم القاعدة في السيطرة على أجزاء من شمال البلاد.
ويوجه الهجوم الإرهابي على فندق راديسون بلو في قلب العاصمة باماكو ضربة جديدة لفرنسا بعد هجمات باريس غير المسبوقة نهاية الأسبوع الماضي. ويحمل العمل الإرهابي في مالي إشارتين جديدتين؛ فتغير مسرح الجريمة وانتقاله إلى جنوب الصحراء في غرب إفريقيا يكشف أنه لم يعد هناك أي مكان في العالم في منأى عن مخاطر الإرهاب. ومع تبني "المرابطين" وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي للعملية، يعود تنظيم القاعدة ليعلن عن إرهابه بقوة ويحصد عشراء الضحايا بين قتيل وجريح، ويوسع دائرة عملياته نحو وسط وجنوب مالي بعدما كان حبيسا لسنوات في شمال البلاد. وتكشف أحداث مالي الأخيرة عن أن الغرب تعجل كثيرا الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي، ولم يتحسب لليوم التالي لسقوط نظامه. فالإرهابيون يستخدمون قسما مهما من ترسانة الأسلحة الليبية التي نقلت إلى الجنوب وتغلغلت في مالي وجنوب الجزائر وتشاد والنيجر. وفي وقت سابق، تحدثت تقارير عن نقل أسلحة نوعية من ليبيا إلى سيناء وتونس، ناهيك عن كم الأسلحة المستخدم في صراع الكتائب والفصائل المتنازعة على النفوذ في ليبيا والمتواصل منذ انهيار نظام القذافي. وفي وقت ترفع فيه البلدان الأوروبية درجة التأهب، وتغلق محطات المترو، وتزيد عدد أفراد الشرطة، وتقوي أجهزة الاستخبارات بالمال والخبرات، فإنها مازالت تغفل حقيقة مهمة وهي أن أمن البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه كل لا ينفصل، وأنه كان يجب التدخل بقوة أكبر من أجل عدم تمكين "داعش" من السيطرة على نحو نصف مساحة سوريا، وأجزاء واسعة من العراق. وواضح أن الإرهاب يرسم بالدم خريطة جديدة للعالم، ومن مقالب التاريخ أن تمدد بقعة الإرهاب تجبر أوروبا على تغيير خريطتها، وربما التراجع عن فضائها المفتوح وفق اتفاقية "شينغين" بعد نحو مئة عام من رسم أوروبا خريطة العالم وفق مصالحها الاستعمارية لنهب ثروات الوطن العربي وآسيا وأفريقيا. وتقف أوروبا عاجزة أمام حرب مفتوحة في مواجهة الإرهاب نتيجة تحولها إلى مجرد تابع في فلك السياسة الأمريكية وجرها إلى حروب في أفغانستان والعراق والقرن الإفريقي.
ويدفع الشمال ثمن سياسته في التواطؤ مع الحكام الدكتاتوريين، ودعم الانقلابات العسكرية في بلدان العالم الثالث، وبناء علاقات مع المستبدين لضمان استمرار هيمنته على الجنوب، وإبقائه متخلفا، ومجرد تابع للشركات الكبرى يمدها بالمواد الخام، ومصادر الطاقة، ويتحول إلى سوق استهلاكية لتصريف منتجات الشركات الاحتكارية الكبرى. وعلى الرغم من مئات الهجمات الإرهابية ومقتل الآلاف سنويا فإن العالم لم يتفق بعد على وضع تعريف واضح ومحدد للإرهاب. ومع تزايد أعداد الخلايا النائمة في القارة العجوز، وبروز إرهابيين ولدوا وترعرعوا في الغرب وتلقوا علومهم في مدارسه تطرح علامات التعجب والاستفهام حول سياسات الاندماج في الغرب، وتأثيرها على أبناء الأقليات المسلمة في أوروبا. وفي مقابل تنافس التنظيمات الإرهابية على إيقاع ضحايا أكبر يبرز غياب استراتيجية عالمية موحدة للإرهاب، وقصور كبير في معالجة أسباب التطرف، وعدم تبني وصفات فعالة للحد من انتشار الإرهاب وتمدده في كل أنحاء المعمورة. من المؤكد أن محاربة الإرهاب باتت تتطلب تشكيل جبهة عالمية موحدة لتوجيه ضربة قاسمة لتنظيمي "داعش" و"القاعدة" وغيرهما من الحركات المتطرفة. لكن الأطراف الدولية المشاركة في أي تحالف يجب أن تبدأ بتعريف واضح للإرهاب، وألا تقتصر مكافحة هذه الآفة على العمل العسكري فقط، بل تنطلق إلى معالجة الفقر والخلل في التنمية، ودعم خيار الشعوب الديمقراطي بما يراعي ظروف كل منطقة وليس عبر فرض وصفات جاهزة حسب المنطق الغربي للديمقراطية والحرية. ومع ضرورة وضع حدّ للمأساتين السورية والعراقية، فإن الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط لن يحل من دون التخلي عن سياسة المعايير المزدوجة في التعامل مع إسرائيل والتوصل إلى اتفاق ينهي الاحتلال الإسرائيلي، ويؤسس لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وإلا فإن موجات الإرهاب لن تتوقف وستواصل رسم حدود جديدة بدماء المدنيين والأبرياء في الشرق الأوسط والعالم.