دسستُ في جيبه ألف ليرة سورية، وأنا أعيد تذكيره بضرورة إنجاز "بيان قيد عائلي" بالسرعة الممكنة، والانتباه إلى تدوين الديانة والطائفة بشكل صحيح. من الضروري استكمال أوراق العائلة والسفر إلى بيروت، فموعد مقابلتنا في السفارة البلجيكية بعد أيام، وسوف نغادر حلب مكرهين. الهجرة إلى أوروبا صارت أمرأً واقعاً، عبر طرق أبواب السفارات والقنصليات الأجنبية، أو باللجوء إليها عبر سماسرة قوارب الموت المنتشرين في العديد من المدن التركية. المهم أن نغادر، وكأنّ الغرب طلع عن جد "أمنا الحنون". الوقت ليس في صالحنا، ولا في صالح مستقبل أولادنا، والمبعوث الدولي إلى سوريا "ستيفان دي ميستورا" مشغول بمتابعة مبادرته الجديدة التي تقوم على تأليف أربع مجموعات عمل مشتركة بين الحكومة وأطياف المعارضة وهيئات المجتمع المدني، وعلى تحديد آليات تطبيق "جنيف 1". فشل من قبله "الأخضر الإبراهيمي" و"كوفي أنان"، وأجندات المتصارعين الدموية في الداخل، ولدى القوى الإقليمية بالخارج لم تعد تعنينا، لا بحل سياسي ولا بحسم عسكري.
كان "أبو صبري" أحد موظفي "مديرية الشؤون المدنية " بمقرها المؤقت في حيّ "محطة بغداد"، يبحث بين مئات السجلات الورقية الكبيرة،عن سجل قيود أهل حيّ "الحميدية "، رقم 57/133، المدوّن بوضوح على هويتي السورية التي لا تحتوي على ديانتي ولا طائفتي. لكنه سرعان ما اعتذر مني بلباقة موضحاً أنه بعد أتمتة سجلات القيود المدنية، لا تجيز تعليمات وزارة الداخلية "تدوين أيّ بيان قيد فردي أو عائلي خطياً، فيجب إنجاز جميع القيود المدنية مطبعياً". أسترجع الأيام الخوالي، قبل تموز/يوليو 2012. فقد كان مقرّ المديرية بمنطقة "السبع بحرات" يعجّ بجلبة الناس من كل أحياء حلب، ومن كل الملل والنحل. ولم نكن نفصح عن ديانتنا ولا طائفتنا إلا عند حاجتنا لإتمام إجراءات روتينية تتعلق بها، كاستخراج وثيقة "حصر الإرث"، أو استكمال الأوراق المطلوبة لتسجيل عقد زواج...، ولم نكن نتوقّع أن تصير تلك المنطقة الحيوية خط تماس، وخاوية من صخب أهلها وأصحابها، ومن عجقة السير وزمامير السيارات.
يحدثني "أبو صبري" عن انقطاع شبكة الانترنت في الأحياء الغربية منذ أكثر من ستة أشهر، والأضرار الجسيمة التي أصابت الكابلات الضوئية، وتحديداً عند استيلاء فصائل "جيش الفتح" على مدينة إدلب في آذار/ مارس 2015. ثم يستطرد متحدثاً عن ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، والانقطاع المتواصل للمياه والكهرباء، وازدحام المراجعين، وصعوبة تأمين الاعتمادات المالية المتعلقة بشراء مواعين الورق وأحبار الطابعات وصيانة المولّدة الكهربائية. يصرخ بمرارة، غير مبال أن يسمعه أحد: "شبعنا كلاماً وخطابات، نريد تغييراً حقيقياً وحكومة تُعايش همومنا. القذائف تسقط فوق رؤوسنا من الأحياء الشرقية، والواقع الخدمي سيئ جداً، لقد انكسرت ظهور أولادنا وهم يحملون أوعية المياه من آبار الجوامع والكنائس، وتجّار الأمبيرات يستنزفون رواتبنا الشهرية، يقبضون 900 ليرة للأمبير الواحد أسبوعياً، ولفترة تشغيل عشر ساعات يومياً، متجاوزين التسعيرة النظامية (750 ليرة). وأبسط موظف درويش مثلي يحتاج إلى أمبيرين لإضاءة ثلاث لمبات توفير الطاقة، لتدريس عياله وشحن موبايلاتهم، وتشغيل التلفزيون لمتابعة نشرات الأخبار المسائية، التي تمدحنا أو تشتمنا. لقد نسينا أيام البرّاد والمغسلة الأتوماتيكية، وأيام سهريات الخميس ومغازلة أم العيال". الرجل يفشّ خُلقه في كلام ظاهره تأفف من غلاء المعيشة وانقطاع المياه والكهرباء وشبكة الانترنت، لكنّ باطنه انكسار وخيبة من انتشار الفساد، وفشل الحكومة في حماية من بقيّ في المدينة ويرفض أن يُهاجر. يقترب مني مستكملاً حديثه بصوت مرتفع: "رئيس الحكومة وائل الحلقي زارنا في مطلع تموز/يوليو الماضي، مع وفد وزاري كبير، إنها زيارة زوروني كل سنة مرة. يعدوننا بحماية المستهلك والطبقة العاملة من جشع تجّار أزمات الحروب، وبمحاسبة المفسدين، كائنا من كان من يدعمهم، ولكن لا أحد تمّ محاسبته". لم يبالِ أيّ شخص من المراجعين ولا من الموظفين بصرخات "أبو صبري"، وكأنّ الجميع لم يقتنع بكلامه، أو يئس من أيّ إصلاح أو تغيير.
كنت راضياً على تلك الرشوة التي دسستها في جيبه، وكأنني شريك في الفساد. فراتبه الذي لا يتجاوز العشرين ألف ليرة سورية لا يكفي لتأمين الغذاء ولو كان "طبخة مجدّرة "، أو العشاء ولو كان بيض مسلوق مع إبريق شاي. فأبسط أسرة مؤلفة من قرابة خمسة أو ستة أشخاص تحتاج إلى مئة وأربعين ألف ليرة سورية لتلبية متطلباتها الأساسية، من قوتها اليومي وأجور السكن والموصلات، وأدوية الضغط والأعصاب، ومستلزمات مدارس أولادها، وتسديد فواتير الأمبيرات، وشراء المياه من أصحاب الصهاريج.... أمّا خطط الحكومة ومساعداتها فلم تنصر موظفاً قابعاً تحت خط الفقر والقصف، بل نصرت المفسدين وأتخمت كروشهم، فيما آلاف الأسر الحلبية المشهورة بالكرم، تقف اليوم بالطوابير أمام مراكز توزيع المعونات، أو ما يُسمّى بالمساعدات الإنسانية، من أجل الحصول على "سلّة غذائية". أتأمل قسمات وجهه المتعبة، فأراها تشبهني لأنني انكسرت مثله، وأعاني أيضاً من خيبة مريرة. وإن كنت قررت الهجرة مع عائلتي إلى بلجيكا، لكنّ تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية يشغل بالي. وعندما يُشاهد قطرات العرق التي تتصبب من وجهي، يربت على كتفي، يطمئنني أنه من الممكن تشغيل المولّدة الكهربائية، والاستعانة بشبكة الانترنت الخاصة بالمؤسسات الحكومية لإنجاز بيان القيد العائلي، وطباعة أسماء أفراد العائلة، وتواريخ ميلادهم، وديانتهم وطائفتهم. ثم يستفسر بشيء من الانزعاج: "لماذا الهجرة؟ لماذا اللجوء؟ في شخص عنده عقل يترك كنائسه وأديرته ويهجر بيته؟ إذا استمرّيتم بالمغادرة فلن يبقى مسيحي واحد بحلب، إنكم تتركونا وحدنا أمام مواجهة جيش الفتح المدعوم من السعودية وقطر وتركيا".
تقودني أسئلة "أبو صبري"، الموظف المفجوع مثلي بكارثة مدينته إلى حالات نوستالجيا لحينا في "الحميدية"، عندما بنى المطران ميخائيل أخرس "كنيسة السيّدة المارونية "عام 1908، وعندما قامت المطرانية بترميمها عام 1998. مسلمون ومسيحيون، جاورتنا الأمكنة في السرّاء والضرّاء، فثرنا معاً ضد الانتداب الفرنسي من أجل الحصول على استقلالنا، وكابدنا معاً كل تداعيات الانقلابات العسكرية. في تلك المرحلة، كان صوت الجميع مسموعاً وقوياً، لذلك نترحم اليوم على وجهاء أحياء حلب وحكمتهم. فكنائسنا قُصفت أغلبها: كنيسة مار الياس بساحة فرحات، كنيسة أم المعونات بشارع التلل، كنيسة الأربعين شهيداً بحيّ الصليبة، الكنيسة الإنجيلية العربية بعوجة الكيالي، كنيسة الفرح بحيّ الميدان..، والأحياء تُقصف يومياً بعشرات الصواريخ الدامية وجرّات الغاز الحارقة، وصارت حلب تسير درب جُلجلتها ممزّقة بين المعابر والحواجز، وبين الفقر والعوز. نحن يا "أبو صبري"، لم نختر الهجرة ولا اللجوء بملء إرادتنا.