لولا عاصفة «السوخوي» لما كانت فيينا، ولولا العملية العسكرية الروسية، لما شكلت اجتماعات العاصمة النمساوية أول محطة دولية ـ إقليمية جدية على طريق السعي لإيجاد حل للأزمة السورية.
بدا المشهد في فيينا سورياليا. كل مشارك يحمل بيد غصن زيتون وفي اليد الأخرى بندقية أو «سوخوي». لكل أسلحته و «عدته» وحساباته. فريق أول لا يحيد قيد أنملة عن مطلب رحيل الرئيس بشار الأسد ولو كان بديله اسمه «نصرة» أو «داعش» أو أي مسمى آخر. وفريق ثان يرفض تكريس منطق تنحي الأسد بالقوة وينادي بسلة سياسية متكاملة ركيزتها الأولى محاربة الإرهاب.
في موسكو، حسمت القمة الروسية ـ السورية أمر سوريا بوصفها ملفا روسيا، وبالتالي ينبغي لأية تسوية مستقبلية أن تأخذ في الحسبان مصالح روسيا، ويسري ذلك على خطة إعادة إعمار سوريا التي لن يرصد لها الروس مئات المليارات من الدولارات، لكنهم سيكونون شركاء في عقود عملية إعادة بناء إعمار سوريا اقتصاديا واجتماعيا، مع الأخذ في الاعتبار متطلبات «الدول» العربية والأجنبية التي ستتولى تمويل هذه العملية التي ستكون شبيهة إلى حد كبير بعملية إعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ولولا قمة موسكو أيضا لما كانت «قمة فيينا». هي القمة التي حاك خيوطها رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية الجنرال ميخائيل فرادكوف بالتنسيق مع حلقة أمنية ضيقة جدا تحيط بالرئاسة السورية في دمشق، وعندما حددت «الساعة الصفر»، توجه الرئيس الأسد مع حارسه الشخصي فقط إلى مطار دمشق حيث كانت تنتظره على أرض المدرج صباح الثلاثاء في العشرين من تشرين الأول طائرة عسكرية روسية، وما أن حلقت في الأجواء السورية، حتى كان سرب من طائرات «السوخوي» يرافقها حتى العاصمة الروسية. هناك حطت طائرة الأسد أيضا في مطار عسكري روسي صغير في إحدى ضواحي موسكو، وانتقل الأسد وحارسه الشخصي إلى الكرملين حيث كان الرئيس فلاديمير بوتين في انتظاره.
في المعلومات أن اجتماعين تخللا الزيارة. الأول، ثنائي مغلق بين بوتين والأسد بحضور أحد المترجمين. الثاني، موسع شارك فيه وزيرا الخارجية سيرغي لافروف والدفاع سيرغي شويغو وسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشوف ومدير الاستخبارات الخارجية الجنرال فرادكوف. وقبل عودة الأسد بالطريقة ذاتها التي أتى بها، أقيمت مأدبة عشاء على شرفه في قصر الكرملين، شارك فيها إلى جانبه وبوتين، رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، وزيرا الخارجية والدفاع وباتروشوف وفرادكوف.
تذكر الأسد في مأدبة العشاء يوم دخل إلى الكرملين في كانون الثاني 2005، عندما كان يصافح نظيره الروسي بحرارة، قال له الأخير إن ثلاثة قادة غربيين هم رئيس الولايات المتحدة جورج بوش ورئيس فرنسا جاك شيراك ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير اتصلوا به هاتفيا، وتمنوا عليه ألا يستقبله، ولكن بوتين أبلغه أنه قرر تجاهل موقفهم، وطلب من دوائر الكرملين المضي بالتحضير للقمة. وبعدما شرح الأسد لنظيره الروسي حقيقة الموقف الغربي منه، لا سيما بعد إعلان موقفه المؤيد للمقاومة في العراق ضد الاحتلال الأميركي، قال له بوتين: طالما أنا رئيس للاتحاد الروسي.. أنت رئيس للجمهورية العربية السورية. هذه الواقعة يؤكدها أيضا مسؤول سوري سابق كان في صلب التحضيرات للزيارة التي حصلت قبل عقد من الزمن وأفضت إلى شطب الجزء الأكبر من الديون الروسية للحكومة السورية. كان مأخذ بوتين والأسد في قمة العام 2005 على الأميركيين وحلفائهم الغربيين أنهم بقرار التدخل العسكري في العراق، إنما يخلون بقواعد النظام الدولي، ولذلك تضمن البيان الصادر عن تلك القمة دعم كل من دمشق وموسكو تشكيل نظام عالمي مستقر وتشكيل نظام دولي «مبني على اعتراف بأحكام القانون الدولي من دون استخدام القوة والتدخل القسري بالدول ذات السيادة».
لم يغادر الروس مربع الاحتكام إلى القانون الدولي، وهم حرصوا على أن يأتي تدخلهم العسكري بناء على طلب رسمي تقدمت به الحكومة السورية. ومن هنا كان توافق الجانبين في قمتهما الأخيرة «على أن أي تشريع للسياسات الأميركية الهادفة إلى فرض تنحي رئيس أية دولة في العالم بالقوة بات يلامس الخطوط الحمر، في ضوء سياسة واشنطن في أكثر من نقطة في العالم لا سيما تجاه دول «الاتحاد السوفياتي» السابق، وما يمكن أن تمثله من تهديد لمصالح روسيا الحيوية الاستراتيجية» على حد تعبير مصادر واسعة الاطلاع. من هذه الزاوية تحديدا، يعتبر التدخل العسكري الروسي في سوريا من وجهة نظر القيادة الروسية، خطا تاريخيا فاصلا بين حقبتين: حقبة استباحة القوانين الدولية وسيادة الدول التي انتهجتها الولايات المتحدة بعد انهيار «الاتحاد السوفياتي» وصولا إلى فرض التغيير بالقوة كما حصل بعد «الربيع العربي»، وفي المقابل، حقبة التمسك بالقوانين الدولية وسيادة الدول، خصوصا أن فرض التغيير بالقوة «بات يضر بمصالح روسيا في أوكرانيا وجورجيا، كما في باقي أنحاء العالم، ويشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي».
ليس التدخل العسكري الروسي في سوريا «عملا عسكريا يهدف إلى تغيير موازين القوة وفرض انتصار النظام على المعارضة» نهائيا، بل له أبعاد أكبر: أولا، إنه قرار كبير بحسم هوية سوريا ضمن «الجيوبوليتيك السياسي» في المنطقة، أي أن سوريا منطقة نفوذ روسي وليست منطقة نفوذ إيراني ولا أميركي ولا تركي ولا سعودي، ولن يكون حل في سوريا إلا عبر الكرملين.
ثانيا، التدخل العسكري الروسي يحسم وحدة تراب سوريا و «علمانيتها»، كما جاهر بذلك، أمس، وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، قبل بدء اجتماعات فيينا، لكن تبقى المشكلة الكردية عالقة، خصوصا في ظل ميل روسي ــ أميركي لتفهم مطالب الأكراد، وهذه نقطة خلاف جوهرية بينهم وبين الأتراك.
ثالثا، التدخل يحصل بناء على طلب رسمي سوري، وهذه إشارة واضحة ليس إلى شرعية القيادة الحالية، بل للقول إن أية تسوية «يجب أن تنطلق من الإقرار بشرعية النظام الحالي، وخصوصا الرئيس بشار الأسد» (ثمة تجاوب غربي لمسه الروس بهذا الاتجاه وخصوصا من ألمانيا).
رابعا، هذا التدخل كان له توقيته الروسي السياسي والعسكري، وله أيضا سقفه الزمني اللاحق، وهو السادس من كانون الثاني المقبل. قد يتم تمديد العملية العسكرية، لكن للأمر اعتبارات روسية أولا، وسورية وخارجية ثانيا.
خامسا، هذا التدخل يجب أن يشكل قوة دفع ليس لتغيير موازين القوى، بل لتعديلها نسبيا وصولا إلى وضع سوريا على سكة مواجهة الإرهاب وإيجاد الحل السياسي الذي توافق بوتين والأسد على أبرز عناوينه في ضوء إدراكهما المشترك لخطورة الوضع وتداعياته التي تتجاوز حدود سوريا والشرق الأوسط.
سادسا، تصر الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين والخليجيين، بالإضافة إلى تركيا، على مرحلة انتقالية يريدون اختصارها إلى حدودها الدنيا (ستة أشهر كما اقترح الأتراك والسعوديون)، فيما يصر الروس والإيرانيون على عملية سياسية تؤدي إلى حل سياسي متكامل، أي سلة تتضمن وقف العنف وتشكيل حكومة وحدة وطنية جدية، ثم تأتي الاستحقاقات الأخرى وبينها إجراء انتخابات نيابية مبكرة ومن ثم انتخابات رئاسية، جوهرها إعادة الاحتكام إلى الشعب على أن تكون هذه وتلك بإشراف الأمم المتحدة، وثمة عرض قدمته بعض العواصم بأن تتولى قوة مصرية مؤلفة من 75 ألف جندي حماية الانتخابات باسم الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لكن محاذيرها المصرية، جعلتها مستبعدة، في ظل مخاوف القيادة المصرية من أن تتحول هذه القوة إلى هدف سواء من قبل المجموعات الإرهابية أو من يقفون خلفها وخاصة تركيا وقطر.
سابعا، يدرك الروس أن قرار الانكفاء الأميركي عن المنطقة هو قرار استراتيجي، وبالتالي، فإن باراك أوباما ليس الآن في وارد اتخاذ أية قرارات من شأنها توريط بلاده في تدخلات عسكرية أو حروب جديدة سواء في سوريا أو غيرها من البلدان. لا ينفي ذلك وجود مناخين داخل الإدارة الأميركية، الأول تعبر عنه وزارة الخارجية وجهاز «السي آي ايه» ويذهب إلى حد الحماسة لـ «المبادرة الروسية» ويدعو البيت الأبيض إلى ملاقاتها كنوع من رد الجميل للقيادة الروسية التي أنقذت ماء وجه الأميركيين عندما أطلقت مبادرة نزع السلاح الكيميائي ومنعت انزلاق الولايات المتحدة إلى الخيار العسكري في سوريا.
أما المناخ الثاني، فهو موجود بقوة في مجلس الأمن القومي وبعض دوائر البنتاغون، وهو يدفع باتجاه تكرار النموذج الأفغاني في سوريا. بالنسبة إلى القيادة السورية، ثمة حدود للمقبول والمرفوض في التعامل مع أية مبادرة سياسية، أولها، ضرورة الحل السياسي على قاعدة أولوية مواجهة الإرهاب، ثانيها، تقديم تنازلات لمصلحة الحل السياسي المتكامل، وعندها نحتكم إلى قرار الشعب السوري، وهذه هي العبارة التي أبلغها الرئيس الأسد للموفد الأممي ستيفان دي ميستورا وللموفدين من قبله وللقيادة الروسية ولكل الموفدين الذين طرقوا أبواب دمشق على مدى سنوات أزمتها.
هل نضجت ظروف التسوية في سوريا؟
الأكيد أن استمرار إقفال أبواب التسوية في العام 2016 سيعني أن براميل البارود ستتحول إلى براكين ملتهبة من اليمن إلى آخر نقطة في الإقليم المشتعل.