في مكتب مسؤول في وزارة الخارجية البريطانية، ثمة خريطة لسوريا حافلة بالألوان. أوراق لاصقة كتبت عليها أسماء الكتائب المختلفة، ودبابيس تحدد مناطق الاشتباك، وامتداد لوني متداخل لمساحات السيطرة الثابتة والمتداخلة. النظر إلى الخريطة شبيه بتأمل مشهد التحالفات السياسية والعسكرية التي تظلل الحرب السورية بشكل عام، وأيضا العلاقات التي تنظم الفوضى القائمة فيها أو تفاقمها في الوقت ذاته. هكذا هي السياسة، وربما لم تنجح يوماً في تجسيد صورتها الحقيقية كما هي عليه اليوم في سوريا. «الواقع السوري، باختصار، معقد»، هذا ما يجيب به أي مسافر سوري تعلن جنسيته على الملأ، فيريد تفادي فضول السائلين، عن فوضى الوطن التي تتصدر نشرات الأخبار منذ أكثر من أربعة أعوام. والخبر الأكثر إشغالا للمراقبين هو التدخل الجوي الروسي في سوريا، والذي يمكن أن يتحول من الدعم الجوي الموقت إلى وجود لوجستي طويل الأمد، وفق ما صرح به رئيس هيئة الأركان الروسية منذ أيام.
بدورها تقيم روسيا التي ترسخ وجودها في سوريا كحليف لدمشق ونظامها السياسي الحالي، كما هو معروف، علاقات اقتصادية في غاية الأهمية مع تركيا. وتظلل زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لتدشين أكبر جامع في موسكو الشهر الماضي، طبيعة الآمال التي يعقدها البلدان على شراكتهما، كما تشي، بخبث، بعلاقة التحدي القائمة، لا سيما في ما يتعلق بمصير «الإسلام السياسي» ورغبة تركيا «قيادة المذهب السني» في العالم، وخشية الروس من «الوهابية السنية». ويسير جنباً إلى جنب مع هذا اتفاق عملاق لنقل الغاز الروسي باسم مشروع مد «السيل التركي» بأربعة خطوط، أحدها بحجم 15.75 مليار متر مربع، سيمتد من روسيا إلى تركيا مباشرة عبر البحر الأسود، وخطوط أخرى بحجم 50 ملياراً من هناك إلى اليونان. ويتشارك الطرفان ميزان تبادل تجاري كبيرا وضعا هدفا لإيصاله إلى 100 مليار دولار في لقاء ثنائي هذا العام جمع أردوغان والرئيس فلاديمير بوتين. كما وقعت روسيا اتفاقات عدة مع السعودية في الأشهر الأخيرة، وذلك لتجاوز رقم التعاون الاقتصادي الخجول المقدر بمليار دولار، وذلك بما يتناسب مع حجم اقتصاد البلدين، ولكن كما قيل حينها لأسباب سياسية، نقل خبراء أن المملكة تحاول ضرب عصفورين بحجر واحد، عبر «إغراء» موسكو بالاقتراب من مواقفها السياسية تجاه إيران وسوريا من جهة، واستفزاز الحلفاء الأميركيين بسبب اتفاقهم النووي مع إيران من جهة أخرى. بدورهم يعرف الروس أنهم بحاجة للأتراك للحصول على نوع من الاستقرار في المشهد السوري، على الأقل في ظل حكم حزب اردوغان. لكن طائراتهم تستفز الأتراك من السماء السورية، وتقصف حلفاءهم على الأرض، علما أن روسيا من جهتها تخبر الجانبين الأميركي والإسرائيلي بطلعاتها اليومية، الأول لكي تتجنب الصدام معه، وربما تمهيدا لمستوى أوسع من التنسيق، والثاني لكونها تعتبر السماء السورية مساحة لحركتها منذ بدء الحرب، وقد تبدل الأمر الآن.
بدورها، تل أبيب تعرف انه لا مفر من التعاون مع موسكو حليف الرئيس السوري بشار الأسد، تماماً كما تعاون جيشها مع مقاتلي «جبهة النصرة» في جنوب سوريا، لتوسيع منطقة نفوذها في ظل الفوضى القائمة. يقال أيضا إن إسرائيل كانت طرفاً في غرفة التنسيق الاستخباراتي «الموك» التي أقيمت في الأردن، ولكن سواء كان هذا صحيحاً أم لا، فإن تل أبيب على الأرجح كانت في الضوء لا في الظل في ما يتعلق بمخططات الغرفة. وضمت الغرفة بالطبع إلي جانب الأميركيين والفرنسيين والأردنيين ضباطا سعوديين، ولكن من دون إمكانية الحديث عن تعاون مباشر بين تل أبيب والرياض، وإن كانت أهداف الطرفين في إزاحة نظام الرئيس السوري متوافقة. لكن ثمة تعقيدات في توافق الطرفين أيضاً، بينها أن السعودية لا ترغب بالأسد، ولكنها ليست متحمسة لحكم مذهبي في سوريا، نتيجة مخاوفها التقليدية من الإسلام السياسي ومن النفوذ الإيراني. بدورها، تفضل إسرائيل تركيبا شبيها بتركيبة لبنان والعراق، يبقي البلاد في حال من الانقسام السياسي الديني، من جهة، ويعزز صورتها كـ «دولة يهودية». ويتفق الطرفان أيضاً بشكل مطلق على اعتبار إيران تهديداً، مع العلم أن الأخيرة لا تبدي معارضة للأنظمة ذات التركيبة المذهبية، كما هو واضح من سياستها في العراق ولبنان. وعلى الصعيد ذاته، يتفق الإيرانيون والأميركيون في العراق، ويخوضون حرباً مشتركة تقريبا ضد تنظيم «داعش»، فيما تتواجه بنادق حلفائهما بشراسة في سوريا. وتقيم طهران علاقات ندية بالطبع مع السعودية، وعداء عسكرياً وعقائدياً مع إسرائيل، ولكنها فيما ترسل خيرة خبرائها للقتال في سوريا، فإنها تحافظ على جسور الاقتصاد ممتدة مع تركيا وقسم كبير من دول الخليج.
ويطمح الأتراك لوصول ميزان العلاقات التجارية مع إيران إلى 33 مليار دولار، وذلك وفقا لتصريحات مسؤولي البلدين، وهو يقارب الآن ثلثي هذا الطموح، ويشكل قطاع الطاقة الحصة الأكبر فيه، بواردات إيرانية لتركيا من الغاز تعادل قيمتها عشرة مليارات دولار تسددها أنقرة ذهباً. بدوره، لم يخدم تحالف الأتراك الموقت مع سوريا، تجارياً، علاقتها مع السعودية، مثلما فعلت خصومتها مع إيران، إذ يقل ميزان التبادل التجاري بين البلدين عن 20 مليار دولار وفقا لتقديرات العام الماضي، بل وتتحرك السعودية بتثاقل مشابه لحركتها مع موسكو حين يأتي الأمر لزيادة فرص التعاون مع تركيا. رغم ذلك يرغب الطرفان في تصوير علاقتهما بأفضل الصور، ربما لأن ثمة تشكيكاً سعودياً خفياً تجاه نوايا قادة «حزب العدالة والتنمية» التركي الذين سبق أن خدعوا سوريا، بعلاقات لا مثيل لها في تاريخ البلدين، تبين أنها كانت مبنية وفق أجندة بعيدة المدى تتضمن محاولة الحزب تسريب جماعة «الإخوان المسلمين» إلى بنية الحكم السياسي في سوريا. لكن بنادق حلفاء الطرفين تتكاتف في سوريا الآن ضد عدو مشترك، هو النظام، ربما الدولة برمتها أيضا. وإن كانت تصيب بلا تمييز أيضا حلفاءه الإيرانيين وترغب في تسجيل نقاط على الروس أيضا.
بدورهم، يرغب الروس بتجريب كل الوسائل لاجتذاب السعوديين إلى طاولة السياسة، وصولاً إلى درجة قيام نائب وزير الخارجية الروسية ومبعوث الرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف بزيارة «رجل السعودية» السابق في «الائتلاف الوطني» المعارض أحمد الجربا مرتين في منزله في القاهرة. أيضا دون أن يعني هذا أن موسكو ستتوانى عن قصف مراكز وقواعد حلفاء الرياض وأنقرة في سوريا. على العكس، يمثل هؤلاء عناصر حرب مجانية في الصراع على شروط اللقاء السياسي والتسوية المحتملة. ومن بين هؤلاء، يقف في المحرقة المستمرة منذ أربع سنوات الأكراد، بجناحهم اليساري في سوريا. وفيما يشكل تشكيلهم العسكري «وحدات حماية الشعب» عدوا علنيا للحكومة التركية، تقيم الولايات المتحدة، حليف أنقرة، علاقات تعاون وتسليح وتغطية جوية للفصيل، الذي بدوره أعلن عن قرب افتتاح مكتب تمثيل سياسي له في موسكو، علماً أنه يقيم علاقات تعاون لوجستي مع الجيش السوري والاستخبارات الإيرانية، وإن كانت سياسته العلنية تنص على نفي هذا الأمر دوماً. ويرغب الأتراك بالرد على هذا التحالف المربك، عبر عملية جارية الآن لتشكيل «جيش العشائر العربية»، وهي المحاولة الثالثة في المناسبة، بهدف «مقاتلة النظام السوري وتحرير الشمال السوري من وجود داعش»، علماً أن ثمة اتفاقا دوليا على القناعة بأن تركيا تقيم علاقات استخباراتية هي الأخرى مع التنظيم المتطرف، وتسهل له طرق الإمداد والمناورة.
وتتمثل سوريا طبعاً باعتبارها الغائب الحاضر في هذه التحالفات والخصومات، فتجري المعارك فقط على أرضها، فيما توقع الاتفاقات خارجها. الغارات الروسية في سوريا ترفع شعبية بوتين إلى 90 % ذكرت مؤسسة استطلاع روسية رسمية، أمس، أن نسبة تأييد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتفعت بشكل قياسي إلى نحو 90 في المئة، وأن ذلك يرجع بدرجة كبيرة إلى قراره توجيه ضربات جوية لتنظيم «داعش» في سوريا. وأوضحت مؤسسة «فتسيوم»، في بيان، أن نسبة التأييد لبوتين بلغت 89.9 في المئة في تشرين الأول بدلاً من 89.1 في المئة في حزيران. وكانت المؤسسة قد قالت إن نسبة تأييده في كانون الثاني العام 2012 بلغت 58.8 في المئة. وأضافت «هذا التأييد العالي لأداء الرئيس الروسي مرتبط بالدرجة الأولى بالأحداث في سوريا، والضربات الجوية الروسية للمواقع الإرهابية هناك». وقالت «فتسيوم» إن شعبية بوتين أخذت تتصاعد بقوة في ربيع العام الماضي، وهي فترة تزامنت مع ضم روسيا للقرم. وقبل بدء الضربات كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن الروس قلقون من مخاطر تدخل الكرملين في الشرق الأوسط. لكن استطلاعاً اجري في وقت سابق من الشهر الحالي أظهر ان 72 في المئة ينظرون بشكل ايجابي للحملة الجوية الروسية. وأظهرت مؤسسة الاستطلاع الكبرى الأخرى (ليفادا)، التي ليس لها صلة بالكرملين، نسبة تأييد كبيرة أيضا لبوتين بلغت 83 في المئة في آب.