طغى تهاوي أسعار النفط على باقي الأحداث منذ بداية العام الحالي، ويتوقع أن تمس التأثيرات الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد تتسبب ببروز نزاعات أو انتهاء أخرى.
وواضح أن توقع منحى الأسعار، وتأثيراته المستقبلية أشبه ما يمكن بقراءة فنجان الحظ بسبب تشابك وتعقد العوامل التي ساهمت بانهيار أسعار النفط، والمسارات المختلفة التي يمكن أن تتسبب بها الخسائر الكبيرة للمنتجين.
ويفرض تراجع أسعار النفط واقعا اقتصاديا جديدا، ومع انتهاء الحظر على الصادرات الإيرانية من المنتظر أن تتسارع وتيرة تهاوي الأسعار، ما يشكل ضغطا على اقتصادات البلدان النفطية.
وهوت أسعار النفط في العام الحالي بنحو الخُمس لتعمق خسائرها إلى أكثر من 60 في المئة في 18 شهرا. ودخل النفط نطاقا سعريا جديدا دون 30 دولارا للبرميل، ولا يستبعد خبراء انهيار الأسعار إلى نحو 10 دولارات وعدم تعافي الأسعار في السنوات الثلاث المقبلة. وبعيدا عن نظريات المؤامرة، فقد لعبت عوامل عدة في تدني الأسعار منها وفرة المعروض، وارتفاع المخزونات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان إلى أعلى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية، وعدم اتفاق بلدان منظمة "أوبك"، التي تزود السوق بنحو ثلث حاجتها، على خفض الانتاج في اجتماعاتها الأخيرة وتمسك معظم المنتجين بأسواقهم والتنافس على أسواق جديدة. كما يضغط تراجع النمو في الصين بقوة على الأسواق النفطية. ويضاف إلى ذلك ارتفاع انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، ورفع الحظر المفروض على صادرات النفط الأمريكية المفروض منذ نحو أربعة عقود. ومما يزيد الطين بلة دخول النفط الإيراني على خط الصادرات بعد رفع العقوبات المفروضة منذ 13 عاما. واللافت أن عامل التوترات السياسية فقد تأثيره المديد على أسعار النفط وهذا ما بدا واضحا في تهاوي الأسعار بعد ارتفاع محدود على خلفية حربي اليمن وسوريا، والتوتر بين السعودية وإيران الذي يهدد نحو 20 في المئة من الإمدادات العالمية التي تمر عبر مضيق هرمز الاستراتيجي.
تراجع أسعار النفط تسبب بخسائر كبيرة للبلدان المنتجة، ومن المتوقع أن تتعمق الخسائر مع عدم القدرة على وقف تهاوي الأسعار. وفي صفوف كبار المنتجين أعلنت السعودية عن عجز قياسي في موازنة عام 2015 ناهز 98 مليار دولار أو 15 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، وتتوقع عجزا في العام الحالي يبلغ 87 مليارا لكنه معرض للزيادة مع توقعات استمرار مسيرة تهاوي الأسعار ويمكن لذلك العجز أن يتضاعف. وبدأت السعودية برنامجا لتخفيف الدعم الحكومي عن المحروقات، وفي الأسبوع المنصرم فقط فقدت سوق المال السعودية نحو 23 مليار دولار. وأما روسيا أكبر منتج عالمي فقد بنت موازنتها على أساس 50 دولار للبرميل لكن تراجع الأسعار لماركة "أوراليز" دون 30 دولارا يفرض ضغوطا كبيرة على الخزينة التي تعتمد بنحو 44 في المئة من مواردها على النفط. وتسبب تهاوي الأسعار في التوجه إلى بحث خيارات لضبط العجز في الموازنة والذي يجب ألا يتجاوز حسب المخططات الحكومية 3 في المئة. وأدى هبوط الأسعار إلى تراجع كبير في سعر صرف الروبل وارتفاع التضخم. ولا يختلف الحال كثيرا في بلدان آسيا الوسطى مثل أذربيجان وكازاخستان التي اضطرت إلى تعويم قيمة عملاتها أكثر من مرة.
وفي مقابل خسائر البلدان المنتجة للنفط، فإن البلدان المعتمدة على الاستيراد استفادت، إذ أن الدول التي تدعم أسعار المشتقات النفطية سوف تخفف فاتورة الدعم، ويقدر البنك الدولي حجم الدعم على المنتجات النفطية للمستهلكين في العالم بنحو 500 مليار دولار. وفي البلدان المعتمدة على التصدير فإن تراجع أسعار النفط يدعم اقتصادات هذه الدول مع تراجع كلفة الإنتاج، ومن غير المرجح أن تنعكس على أسعار الوقود للسيارات بسبب الضرائب الكبيرة المفروضة من قبل الحكومات الغربية بهدف حماية البيئة. وبين هذا وذاك، يصعب قياس تأثير تهاوي الأسعار، ففي مصر على سبيل المثال، سوف تنخفض فاتورة الدعم كثيرا ما يشكل فرصة لدعم الموازنة، لكن في نفس الوقت فإن حجم تحويلات المغتربين سوف يتراجع بسبب أزمة البلدان النفطية، كما أن مشكلة الخليج مع تراجع النفط سوف تؤدي إلى خفض المساعدات من السعودية والكويت وغيرها، وهو الدعم الذي يساعد اقتصاد مصر على الصمود في السنوات الأخيرة.
الصناعة النفطية ذاتها لن تكون في مأمن من انعكاسات خطيرة، فتحت ضغط تهاوي الأسعار يتراجع الاستثمار في البحث والتنقيب، ويتأجل بدء استغلال الحقول الجديدة ما يعني تراجعا في حجم الانتاج على المدى المتوسط والبعيد، وارتفاع الأسعار مرة أخرى. كما يعطل تراجع الأسعار مشروعات الاستثمار في الطاقة المتجددة على المدى المنظور والمتوسط.
ولا يقتصر تأثير تهاوي أسعار النفط على الجوانب الاقتصادية فقط على البلدان المنتجة والمستهلكة، ويرجح أن يتسبب باضطرابات اجتماعية وسياسية في بعض الدول. ومع ترجيح معظم الدراسات والخبراء استمرار تهاوي أسعار النفط، فإن دراسة أعمق قد تصل إلى نتائج مغايرة، منها على سبيل المثال بروز ثورات واحتجاجات واسعة في عدد من البلدان، قد تؤدي إلى تغيير حكومات، أو اندلاع نزاعات مسلحة على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى رفع الأسعار مرة أخرى. ويتوقع معظم المراقبين تصاعد الخلاف بين السعودية وإيران، لكن النتائج متناقضة؛ فمن جانب فإن تطور الخلاف إلى صراع مسلح سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص المعروض، ولكنه احتمال مستبعد، والأرجح أن يتواصل الصراع بالوكالة بين البلدين في اليمن وسوريا والعراق والبحرين. وفي صورة مناقضة تماما يمكن أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق لتحديد الانتاج وتوزيع الحصص ما يشكل دعما للأسواق، وحتى تخفيف التوتر في مناطق الصراع برعاية دولية ما قد يشكل مفاجأة العام الحالي.
وفي النتائج المباشرة فإن البلدان المعتمدة على النفط بدأت سياسة ترشيد النفقات وتخفيف الاعتماد على واردات النفط ما قد يشكل حافزا لها لتنويع اقتصاداتها في مواجهة تداعيات تراجع الأسعار في دورة اقتصادية جديدة، فما نراه اليوم هو انتهاء عشر سنوات من ارتفاع النفط إثر عوامل مختلفة فاقم منه عدم التنسيق ضمن "أوبك" وكبار المنتجين خارجها.