دخلت الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا مرحلة جديدة وغير مسبوقة في الأسابيع الثلاثة الماضية، بالتزامن مع استمرار العدوان على قطاع غزة، والذي أتى في أعقاب تمكّن المقاومة الفلسطينية من هدم «أذكى» جدار عرفته البشرية في العصر الحديث، حاولت إسرائيل عن طريقه تحييد القطاع. وطاول الردّ الإسرائيلي الجنوني، المدعوم أميركياً وأوروبياً، على تلك الضربة، سوريا، أحد أبرز أطراف محور المقاومة، والتي تحتضن طريق إمدادها، ليتحوّل مطارا دمشق وحلب إلى هدفَين دائمَين للعدو، تارةً بحجّة الردّ على قذائف انطلقت من الشريط الفاصل جنوبي سوريا نحو الأراضي المحتلّة، وتارةً أخرى بذريعة ضرب طرق الإمداد الإيرانية، وشبكة الحضور الإيراني في الأراضي السورية.

ومنذ السابع من الشهر الحالي، بلغت الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، 12 اعتداءً، بينها 4 طاولت مطار حلب، واثنان مطار دمشق، بالإضافة إلى أخرى استهدفت كتيبة دفاع جوي في ريف درعا، ومواقع في دير الزور على الحدود مع العراق والقنيطرة المحاذية للشريط الفاصل مع الأراضي المحتلّة. على أن هذه الاعتداءات لم تكُن لتَحدث من دون مقدّمات سبقتها بنحو 12 عاماً، إثر اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، وما تلاها من دخول البلاد حرباً فرضت خريطة نفوذ خرجت بموجبها المناطق النفطية في الشمال الشرقي من البلاد من سيطرة الحكومة، ودخلت تحت إشراف «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة، التي أنشأت منذ عام 2015 سلسلة قواعد غير شرعية لها في تلك المناطق، إلى جانب قاعدة تُعتبر الأكبر في منطقة «التنف» جنوبي البلاد، عند المثلّث الحدودي مع الأردن والعراق.

وفي خضمّ ذلك، شهد عدد من القواعد للدفاع الجوّي السوري هجمات مختلفة من الفصائل المسلّحة، أشهرها تلك التي نفّذها مقاتلو تنظيم «داعش» ومقاتلو «هيئة تحرير الشام»، والتي تسبّبت في خروج عدد من منظومات الدفاع الجوي والرادارات وأجهزة الرصد والتشويش من الخدمة في ريفَي دمشق ودرعا، بالإضافة إلى ريف حلب. وقد شهدت هذه الأخيرة أعنف هجمات مقاتلي تنظيم «القاعدة» المباشرة على أنظمة الصواريخ وكتائب الدفاع الجوّي، ومن بينها الهجوم الدامي الذي تعرّضت له «الكتيبة 606» هناك عام 2012، والعمليات التي استهدفت المطارات العسكرية في محيط حلب، والتي وثقها عدد من وسائل الإعلام المعارضة ونقل وقائعها بشكل مباشر تحت اسم «الفتوحات». وإذ تسبّبت العمليات المُشار إليها في إضعاف منظومات الدفاع الجوّي السورية، فقد فتحت الأجواء أمام إسرائيل التي لم تُقدم منذ 2003 وحتى 2012 على تنفيذ أيّ غارة، باستثناء واحدة طاولت بناء في منطقة الكبر في ريف دير الزور ادّعت دولة الاحتلال أنه موقعٌ لتطوير مفاعل نووي. لكنّه بدءاً من عام 2013، بدأت إسرائيل شنّ سلسلة اعتداءات على مواقع مختلفة من سوريا بذريعة استهداف الوجود الإيراني، في وقت كانت فيه دمشق تؤكد أن هذه الاعتداءات إنّما تصبّ في خدمة الفصائل المسلّحة وعملياتها.

لا يبدو أن الاعتداءات الإسرائيلية ستتوقّف، علماً أنها تأتي مصحوبة بدعاية كبيرة تقودها وسائل إعلام معارضة

ولعلّ ما عزّز رؤية الحكومة السورية، توقّف الهجمات الصاروخية على الشريط الفاصل مع الأراضي المحتلّة، بين عامَي 2014 و2018، وهي المدة التي خرج فيها الجنوب السوري ومعبر القنيطرة عن سيطرة الحكومة، إثر استيلاء عدد من الجماعات على رأسها «جبهة النصرة» (فرع تنظيم "القاعدة" حينها في سوريا) على المنطقة. وكانت إسرائيل قد أطلقت، عام 2013، ما سمّته برنامج «حسن الجوار»، وهو برنامج تطبيعي يهدف إلى دعم الفصائل المعارضة وتقديم الرعاية الطبّية إلى مقاتليها من جهة، وفتح الباب أمام إرسال مساعدات إلى سكّان المنطقة الجنوبية من سوريا، وهو ما حظي بدعم عدد من وسائل الإعلام، من بينها قناة «أورينت» التي عقد مسؤولوها سلسلة اجتماعات مع مسؤولين إسرائيليين للترويج للبرنامج، قبل أن تُلغيه إسرائيل بعد استعادة الحكومة السورية سيطرتها على الجنوب السوري والشريط الفاصل عام 2018. عندذاك، عادت الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية جنوباً، فيما ارتفعت وتيرة الاعتداءات الجوّية، وصولاً إلى دخولها منعرجاً جديداً بعد أن أسقطت الدفاعات الجوّية طائرة «F16» إسرائيلية كانت تحاول تنفيذ اعتداءات على سوريا. ودفع ذلك إسرائيل إلى اتّباع تكتيكات جديدة في اعتداءاتها، عبر إطلاق صواريخ من طائرات تحلّق من خارج الأراضي السورية بكثافة، تفوق قدرة أنظمة الدفاع الجوّي السورية على التصدّي لها جميعها، الأمر الذي تسبّب في أضرار متفاوتة في المواقع المعتدَى عليها.

ومنذ بداية 2023، سُجّل أكثر من 40 اعتداءً عبر الهجمات الصاروخية والقذائف، التي طاولت مواقع مختلفة من البلاد، في وقت ظهر فيه بوضوح تعمّد استهداف مطارَي دمشق وحلب، الذي شهد في شهر شباط الماضي اعتداءَين بالتزامن مع وقوع الزلزال، ما تسبّب في قطع الطرق أمام وصول المساعدات الإنسانية إلى المنكوبين. وبالإضافة إلى ذلك، شهد ميناء اللاذقية اعتداءَين تسبّبا في إتلاف شحنات حليب للأطفال ومواد تموينية وغذائية أخرى، وفقاً لما أظهرته صور وتسجيلات مصوّرة عرضتها وسائل إعلام سورية. أيضاً، تعمّدت إسرائيل ضرب كتائب الدفاع الجوي ومنظومات التشويش التي ينشرها الجيش السوري لاستعادة السيطرة على الأجواء ومنع الاعتداءات.

على أن تزامن التركيز المستمرّ على مطارَي حلب ودمشق، مع استعادة سوريا علاقتها بمحطيها العربي، وعودة عدد من الخطوط الجوية لتسيير رحلات جوية إلى هذا البلد، ينبئ برغبة إسرائيلية جامحة في وضع عراقيل أمام ذلك الانفتاح، سواء عبر شلّ الرحلات الجوية، والتي يُنقل بعضها إلى مطار اللاذقية الصغير نسبياً، أو عبر تخويف شركات الطيران لمنعها من تسيير رحلات إلى المطارَين رغم عمليات الإصلاح العاجلة التي تجريها وزارة النقل، والتي تمكّنت في عدة مرّات من إعادة المطارات إلى النشاط بعد بضع ساعات من تعرّضها للاعتداءات.

بالنتيجة، وفي ظلّ خريطة السيطرة الحالية التي مزّقت سوريا إلى ثلاث أو أربع مناطق، بالإضافة إلى الوجود غير الشرعي لقوات تركية شمالاً، وأميركية في الشمال الشرقي وجنوبي البلاد، والضرر الكبير الذي لحق بأنظمة الدفاع الجوّي، وعودة خطوط التماس إلى الاشتعال عبر شنّ هجمات «انغماسية» مباغتة تنفّذها فصائل «جهادية»، أو عن طريق طائرات مسيّرة تُطلق بصورة مستمرّة نحو مواقع سيطرة الحكومة، وتسبّبت إحداها في مجزرة تعرّضت لها الكلية الحربية في حمص مطلع الشهر الحالي، لا يبدو أن الاعتداءات الإسرائيلية ستتوقّف، أقلّه في المدى المنظور. وهي ستظلّ تحظى بدعاية كبيرة تقودها وسائل إعلام معارضة، تسوّق لها على أنها عمليات استهداف ضدّ الوجود الإيراني في سوريا، ضمن حملة ترمي إلى تقديم مبرّرات لتلك الاعتداءات، وتحوير سياقها الحقيقي، وتغطيتها بعباءة مصطنعة تصوّر ما يحدث على أنه صراع إسرائيلي – إيراني.