المجزرة الأكبر منذ سنوات... والجيش نحو كسر «سـتاتيكو» الشمال؟
في تطوّر يفتح الباب أمام فصل جديد في الحرب السورية، مصدّراً احتمال انكسار حالة «الجمود» التي فرضتها اتفاقية «خفض التصعيد» الناتجة من مسار «أستانا»، شنّت طائرات مُسيّرة هجوماً على حفل تخريج دفعة من الضباط في الكلية الحربية السورية في منطقة الوعر في مدينة حمص وسط البلاد، ما أدّى إلى مقتل وإصابة العشرات، ومن بينهم عدد كبير من المدنيين الذين كانوا يحضرون الحفل. الهجوم الذي وصفته وزارة الدفاع السورية بأنه «عمل إجرامي غير مسبوق»، مؤكدةً أنه «سيتمّ الردّ عليه بحزم»، تبعته حملة قصف موسّعة شنّها الجيش السوري بالمدفعية والصواريخ، إضافة إلى الطائرات السورية والروسية، على طول خطوط التماس مع المسلّحين في ريفَي إدلب وحلب. وحمّل بيان وزارة الدفاع «التنظيمات الإرهابية» مسؤولية الهجوم، من دون إغفال الإشارة إلى تورّط «جهات دولية معروفة» لم يسمِّها، في دعم هذه التنظيمات. ومن الواضح أن الإشارة تذهب في اتجاه الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، فضلاً عن تركيا التي تتمتّع بعلاقات وطيدة مع «هيئة تحرير الشام»، التي تسيطر على إدلب، وفصائل مسلحة أخرى.
ووقع الاعتداء عقب انتهاء المراسم الرسمية في حفل التخريج، الذي حضره وزير الدفاع السوري، العماد علي عباس، ومحافظ حمص، وعدد من الضباط الكبار في الجيش السوري. وبعدما غادر الوزير رفقة الضباط الرفيعين، تجمهر الأهالي في الساحة مع أبنائهم المتخرّجين، وفي هذه اللحظات، استهدفت المُسيّرات المنصة الرئيسة ومحيطها، ما خلّف عشرات الضحايا والمصابين، والذين بلغ عددهم في حصيلة أوّلية نحو 80 شهيداً، وأكثر من 200 جريح، مع ترجيح ارتفاع الأرقام، بالنظر إلى وجود إصابات بالغة.
رد سوري سريع
وعقب الهجوم، شنّ الجيش السوري حملة استهدافات مدفعية وصاروخية، يمكن اعتبارها الأوسع على الإطلاق منذ مطلع عام 2020، ضدّ مواقع انتشار الفصائل المسلحة في الشمال السوري، حيث يجري الاستهداف بناءً على قاعدة بيانات يتمّ تحديثها دورياً، عبر المراقبة المستمرّة. كما تداولت وسائل إعلام معارضة أنباء عن عمليات استهداف نفّذها الجيش السوري، طاولت قواعد تابعة للجيش التركي، بينها نقطة قرب بلدة الرويحة جنوبي إدلب، ما أدّى إلى إصابة عدد من الجنود الأتراك. ويبعد الموقع الذي وقع فيه الهجوم الإرهابي، نحو 100 كيلومتر عن مواقع انتشار الفصائل في الشمال، ويقع ضمن مجمع عسكري، ما أثار تساؤلات عدّة حول الآلية التي استخدمها منفّذو الاعتداء، ونوعية الطائرات المُسيّرة، وطريقة توجيهها بهذا الشكل الدقيق، والموقع الذي انطلقت منه. فإذا كانت المُسيّرات انطلقت من إدلب، وهو الأرجح حتى الآن، فذاك يعني امتلاك الجماعات «الجهادية» تقنية حديثة تمكّنها من إطلاق وتوجيه الطائرات حتى مسافات بعيدة، وإصابة الأهداف بشكل دقيق، وهي تقنيات لا يمكن لهذه الجماعات امتلاكها من دون دعم فنّي وتقني من دول متقدّمة ومقتدرة. أمّا إذا كانت المُسيّرات انطلقت من البادية السورية، أي من المناطق البعيدة التي ينشط فيها تنظيم «داعش»، ويتّخذ من قاعدة «التنف» الأميركية قاعدة إمداد له، فإن ما تَقدّم يعني أن التنظيم بات يمتلك تلك التقنيات المتقدّمة، وأن التصعيد الأخير جاء بدفع أميركي مباشر أو غير مباشر.
وبعيداً من التحليلات التي يجري تداولها في الأوساط السورية، يشير بدء الجيش السوري حملة مكثّفة على مواقع انتشار الفصائل «الجهادية» شمالي البلاد، إلى أن هذه الجماعات متورّطة في الهجوم، بشكل أو بآخر، خصوصاً أنها سبق أن نفّذت هجمات بالمُسيّرات على مواقع للجيش في ريفَي حماة واللاذقية. غير أن تلك الاعتداءات كانت محدودة بمسافات قصيرة، ولم تكن بالدقّة التي كان عليها هجوم أمس، ما يفتح الباب أمام تصعيد متواصل على خطوط التماس التي رسمتها اتفاقية «خفض التصعيد» الموقّعة بين دول مسار «أستانا» (روسيا وتركيا وإيران) في عام 2017، وما تبعها من تهدئة بقيت صامدة الى حدّ كبير، منذ عام 2020. وكانت تركيا قد استثمرت هذا المسار عبر توزيع نقاط عسكرية وقواعد غير شرعية على الأراضي السورية، بالإضافة إلى تنظيم صفوف الجماعات «الجهادية» وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، من خلال مأسسة فصائلها، وبناء هيكلية عسكرية لها، سمحت بتطوير بعض قدراتها العسكرية والتقنية، علماً أن الجيشَين السوري والروسي شنّا خلال الشهرين الماضيين سلسلة هجمات على مواقع تستعملها هذه الفصائل في تطوير الطائرات المُسيّرة.
وبالعودة إلى بيان وزارة الدفاع السورية، فقد اختُتم بالتأكيد أن «المخطّطين والمنفّذين لهذا العمل الإجرامي سيدفعون ثمنه غالياً»، ما قد يفتح الباب أمام كسر «الستاتيكو» الذي سيطر على شمال سوريا، طوال السنوات الماضية، خصوصاً أن الجيش السوري كان قد استقدم خلال الأشهر الثلاث الفائتة، تعزيزات عسكرية إلى مناطق التّماس مع إدلب، حيث جرى الحديث حينها عن عملية لإنهاء وجود الفصائل «الجهادية» التي تتّخذ من إدلب معقلاً لها، بالإضافة إلى استعادة السيطرة على طريق حلب – اللاذقية (M4)، والذي لم تفِ تركيا بجميع تعهّداتها السابقة بفتحه حتى الآن، قبل أن يكتفي الجيش السوري آنذاك بتنفيذ سلسلة استهدافات طاولت معسكرات وقواعد يتحصّن فيها مسلحون تابعون لجماعات «جهادية».
وأحدثت الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت من موقع الهجوم، صدمة في الشارع السوري الذي ظنّ أهله أن الحرب بشكلها العنيف قد انحسرت نسبياً. وفي غضون ذلك، أعلنت الحكومة السورية الحداد العام ثلاثة أيام، كما أعلنت إذاعة «شام إف أم» المحلية وقف برامجها اليومية والاكتفاء بالأغاني الوطنية ونشرات الأخبار حداداً على أرواح الضحايا. كذلك، أعلن «الاتحاد السوري لكرة القدم» تعليق كلّ نشاطاته الرياضية ثلاثة أيام حداداً على أرواح الشهداء.