حقول الرميلان أسيرةً للأميركيين: درّة الصناعة النفطية السورية تُواصل احتضارها
منذ السنوات الأولى لبدء الأزمة، شخصت عيون التنظيمات والفصائل المسلّحة إلى حقول الرميلان النفطية، الأكبر إنتاجاً والأكثر تطوراً. لكن المنشأة التي كانت بمنزلة منارة نفطية وتنموية متميّزة خلال عقود ما قبل الأزمة، تحوّلت منذ سيطرة «قسد» عليها، إلى ما يشبه الثكنة العسكرية المسخّرة لخدمة القوات الأميركية ومقاتلي «الإدارة الذاتية»
في عام 1958، دخلت بلدة الرميلان الواقعة في محافظة الحسكة إلى قائمة البلدات المنتجة للنفط في المنطقة العربية، وذلك مع اكتشاف أولى الكميات النفطية في حقل كراتشوك، لتتتالى، مذّاك، الاكتشافات النفطية والغازية في المنطقة، جاعلةً من حقول الرميلان، لا واحدة من أهمّ مراكز الإنتاج النفطي السوري فقط، وإنما إحدى المنشآت النفطية المتقدّمة بتجهيزاتها وخدماتها، والتي كانت تُدار منذ بداية ستينيات القرن الماضي بأيادٍ سورية بالكامل، إلى حين استيلاء عناصر «وحدات حماية الشعب» الكردية عليها في عام 2013، ثمّ تمركز قوات الاحتلال الأميركية فيها، وتحويل بعض مرافق المنشأة إلى ورش لخدمة المجهود العسكري للقوات الأميركية والكردية.
لم تكن الرميلان مجرّد تجمّع لحقول وآبار تنتج النفط والغاز، كما تقول المعلومات المتداولة إعلامياً. فإلى جانب ضمّها الحقول الأكبر سورياً في إنتاجها اليومي، فهي احتوت مدينة سكنية نموذجية أمّنت كلّ متطلّبات الحياة من سكن وطعام وتعليم وصحة وترفيه لأكثر من ألفَي أسرة كانت تسكنها إلى جانب العديد من العاملين العازبين. وبحسب ما يروي عنان إبراهيم، الذي تولّى إدارة مديرية حقول الرميلان لسنوات عدّة قبل عام 2011، فإن المدينة «كانت توفّر جميع الخدمات التي يحتاجها السكّان عادةً في أيّ تجمّع سكني، بدءاً من خدمات المياه والكهرباء والاتصالات وغيرها، إلى الورش الفنية والحرفية والمنشآت الثقافية والترفيهية من سينما ومكتبة ومركز ثقافي. لا بل إن شاغلي المدينة كانوا يحصلون بشكل دوري ومجاني على احتياجاتهم الأساسية من مواد غذائية وغير غذائية».
ويضيف إبراهيم، في حديث إلى «الأخبار»، أن «المنشأة النفطية كانت تؤمّن وجبتَي إفطار وغداء لأكثر من 6 آلاف عامل فيها (80% منهم من أبناء البلدة ومناطق المحافظة)، إضافة إلى خدمات النقل والطبابة والتعويضات المالية المجزية، فضلاً عن المسؤولية المجتمعية التي كانت تنهض بها المنشأة الضخمة من قبيل تسخير تجهيزاتها وإمكاناتها لخدمة المجتمع المحلّي، كالمساعدة على إطفاء الحرائق التي تندلع في فصل الصيف، وتغذية القرى المجاورة بالكهرباء المنتَجة من محطّة التوليد الموجودة في المنشأة، والتي كان يصل إنتاجها إلى حوالي 300 ميغاواط، مشكِّلةً بذلك حوالي 10% من الإنتاج الوطني في مرحلة من المراحل». والجدير ذكره، هنا، أن الحكومة السورية لا تزال تدفع رواتب وتعويضات العاملين في المنشأة لغاية تاريخه، على رغم خروجها عن السيطرة قبل حوالي عشر سنوات.
مرّ الإنتاج النفطي لحقول الرميلان، والبالغ عدد آبارها وفق البيانات الرسمية أكثر من 1300 بئر، بمراحل أساسية عدّة كان أبرزها وصول حجم الإنتاج إلى حوالي 200 ألف برميل يومياً في أعقاب حرب تشرين، وإطلاق عملية إعادة الإعمار خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ثمّ تراجعه إلى حوالي 120 ألف برميل في فترتَي الثمانينيات والتسعينيات، وذلك قبل أن تنجح الكوادر الوطنية في تحسينه إلى 145 ألف ليرة قبل عام 2011، وإلى حوالي 164 ألفاً ما بين عامَي 2011 و2013. وبحسب ما يذكر إبراهيم، فإن مديرية حقول الرميلان كانت لديها «أكبر حفارة نفطية في الشرق الأوسط، وتقوم دورياً بتحديث تجهيزاتها في جميع مجالات الاستكشاف والتنقيب والإنتاج والصيانة، وقد تمكّنت في هذا السياق من الحصول على تجهيزات متطورة لم يكن لها مثيل في المنطقة». ويتابع أن «الإنتاج الغازي كان بحدود مليونَي متر مكعّب يومياً، يذهب منها حوالي 700 ألف متر مكعب إلى معمل معالجة الغاز لمعالجته، ومن ثمّ إعادة ضخه إلى محطات توليد الطاقة الكهربائية، وتزويد حقول الرميلان باحتياجاتها اللازمة من الغاز الطبيعي لعمليات التشغيل والإنتاج. أمّا باقي الكمية المنتَجة من الحقول، والمقدَّرة بحوالي 1.3 مليون متر مكعب، فكانت تذهب مباشرة إلى محطات توليد الكهرباء لكونها ليست بحاجة إلى معالجة».
حافظت حقول الرميلان على إنتاجها المعتاد خلال السنوات الثلاث الأولى تقريباً من عمر الأزمة، على رغم ما واجهها من مشكلات وصعوبات ناجمة بالدرجة الأولى عن تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، وفق ما يشير إليه المهندس نبيل محمود، مدير مديرية حقول الرميلان في تلك الفترة. ويضيف محمود، في حديث إلى «الأخبار»، أن المديرية عانت مع بداية الأزمة من «عمليات السرقة والنهب لآلياتها ومعداتها، وتعذّر وصول بعض الكوادر إلى مواقع العمل، ومع ذلك، فقد تمكّنت من تحقيق رقم إنتاج جيد وصل إلى حدود 164 ألف برميل يومياً». ويستذكر أن عناصر «قسد» دخلوا إلى المنشأة واحتلّوها بقوة السلاح بينما كان هو في مهمّة عمل في دمشق، وقد تواصلَت معه آنذاك قيادات كردية ليتولّى إدارة المنشأة وتشغيلها، إلّا أنه رفض طلبهم. ومذّاك، ومن ثمّ إحالته على التقاعد، لا يعرف شيئاً عن «الوضع العام في المنشأة وما لحق بالحقول وتجهيزاتها من أضرار» أوقفت مشروعاً كبيراً وواعداً.
إلّا أن مصادر محلّية تواصلت معها «الأخبار»، أوضحت أنه نتيجةً لعمليات النهب والسرقة لتجهيزات المنشأة، وما لحق بالآبار المنتِجة فيها من استنزاف جائر وغير فنّي على يد «قسد»، فإنه كان من الطبيعي أن يتراجع إنتاج الحقول بشكل كبير. وبحسب ما هو متداول، فإن «قسد»، وبالتعاون مع القوات الأميركية، قامت بالاستيلاء على بعض الورش الفنّية، وتحويلها إلى ورش لصناعة وصيانة المعدّات العسكرية، في الوقت الذي قامت فيه تلك القوات بإصلاح وتحديث المطار الزراعي المجاور ليصبح قادراً على استقبال طائرات حربية مختلفة الأوزان والأحمال. وهذه جميعها معطيات تثبت أن اهتمام الولايات المتحدة في سوريا وأولويتها يتّجهان نحو تعزيز تواجد قواتها وقواعدها داخل الحقول النفطية لتحقيق هدفَين: الأوّل، حرمان البلاد من النفط لفترة زمنية طويلة نوعاً ما تحقيقاً لأغراض سياسية واقتصادية، على غرار ما تعرّض له العراق من حصار اقتصادي قاتل؛ وثانيهما، المساهمة في تفتيت وحدة الجغرافيا السورية من خلال خلق اقتصاديات مستقلّة ومعزولة بعضها عن الآخر، بدليل قيام القوات الأميركية بتركيب مصفاة نفطية في حقول الرميلان لتكرير ما يقرب من 3 آلاف برميل يومياً، فضلاً عن مئات الصهاريج التي تنقل نفط المنشأة إلى خارج البلاد بشكل غير مشروع.
تتباين المعلومات المتعلّقة بالإنتاج الحالي لحقول الرميلان، بين 20 ألف برميل و50 ألف برميل يومياً، إلّا أن معظم توقّعات العاملين في القطاع النفطي، والذين لديهم معرفة بالوضع الفنّي السائد حالياً في تلك الحقول، تشير إلى أن الإنتاج سيبقى محدوداً مهما حاولت «قسد» وقوات الاحتلال الأميركي تحسينه، وذلك نظراً إلى حجم الضرر الفني الذي لحق بالآبار من جهة، وعمليات النهب والسرقة لمستودعات المنشأة وتجهيزاتها من جهة ثانية. فالحقول اليوم بحاجة إلى تقييم وضع للوقوف على حالة الآبار واحتياجاتها، ومن ثمّ وضع خطّة إصلاح وإعادة تأهيل متدرّجة، وهذا ما يبدو صعب التحقّق حالياً، لأسباب عدّة أهمّها تسرّب معظم الخبرات النفطية منذ سيطرة «قسد» على المنشأة إلى خارج البلاد للعمل سواءً في العراق أو ليبيا أو غيرهما، فضلاً عن الحاجة إلى التعاون مع شركات عالمية للاستفادة من خبرتها، وهذه الشركات من المستبعد دخولها إلى المنطقة ما لم تبرم اتفاقاً قانونياً مع الحكومة السورية يحفظ حقوقها ويحميها من الملاحقة القانونية الدولية مستقبلاً.