مؤتمر جنيف السوري في طريقه للانعقاد في موعده المقرر، في 25 كانون الثاني الحالي. المعارضة تشكك، الأمم المتحدة تتريث، لكن الأوروبيين يتصرفون على هذا الأساس. لكنه سيكون مؤتمراً لاختبار النيات، بلا مضمون سوى مواصلة الخلاف حول عنوان ما يجب التفاوض حوله: الحكومة المشتركة أم هيئة الحكم الانتقالية. البعض حسم أن لا مجال للبدء، وفق موازين القوى الحالية، سوى بالاجتماع حول حكومة. أما الشكوك فموجودة، لكن العيار الثقيل منها: الخوف من نسف العملية برمّتها، إذا انفجر التأزم بين السعودية وإيران، أو حرقها روسياً بالوقوف خلف الحسم العسكري. تلك الخلاصات كانت حصيلة اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل. الملف السوري شغل جانباً كبيراً من نقاشاتهم. التقوا وزير الخارجية الأردني ناصر الجودة. عمان أوكلت مهمة التنسيق لوضع قائمة المنظمات الإرهابية، تلك التي ترى موسكو إنجازها أولوية لإطلاق العملية الانتقالية، بما أن وقف إطلاق النار، المأمول، سيستثني المجموعات التي ستصنّف إرهابية.
لكن نقاشات الأوروبيين مع نظيرهم الأردني ركّزت على قضية المساعدات الإنسانية، خصوصاً الإعداد لمؤتمر المانحين في لندن بداية شباط المقبل. مسؤول أوروبي أكد، لـ «السفير»، أنه «لم يتم إنجاز أي قائمة»، موضحاً أن «المسألة حساسة جداً وستأخذ وقتاً طويلاً، فهناك خلافات كبيرة بين الجميع حول من هو الإرهابي ومن هو المقاتل من أجل الحرية، بعض الدول الداعمة للمعارضة ترفض نهائياً المساس بالمجموعات التي تدعمها». ما يثار حول عدم تأكيد انعقاد جنيف بقي خارج قاعة اجتماع الوزراء. الجميع يتحدث، ويحسب، باعتبار أن المؤتمر سينعقد الاثنين المقبل، حسبما أكد مصدر أوروبي اطلع على مداولات الوزراء. وقال لـ «السفير» إنه «لم تكن هناك أي إشارة، من أي دولة على الطاولة، أن المؤتمر لن يعقد في موعده». وكان المتحدث المساعد باسم الأمم المتحدة فرحان حق قال، بعد تقديم المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا عرضاً لمجلس الأمن حول الاستعدادات لعقد المؤتمر في جنيف، إن «الأمم المتحدة ستوجه الدعوات (لمحادثات جنيف) عندما تتفق الدول التي تقود هذه العملية حول من ستتم دعوته لتمثيل المعارضة»، من دون أن يستبعد تأجيل مفاوضات جنيف.
هنا يحضر طرح أوروبي عن دعم مستجد لوفد المعارضة. لا يخص ذلك تقديم عون مادي، رغم حديث معارضين سابقاً عن أنهم باتوا «يقضوها على الفلافل» نتيجة قلة الدعم المالي، كما قال مرة المعارض السوري ميشيل كيلو. جرى الحديث، بالعموم، عن مساعدات من بروكسل تحت عنوان «بناء القدرات خلال المفاوضات وبعدها خلال العملية الانتقالية». لكن مصادر أوروبية قالت، لـ «السفير»، إن الأمر يدور عملياً حول إرسال مستشارين تفاوضيين إلى جنيف لمؤازرة الوفد المعارض. وتوضح المصادر خلفية هذا المنحى، بالقول «نبحث إرسال مستشارين ليكونوا حول قاعات التفاوض، هناك تفاوت بين مواقف المعارضة وأصوات متفرقة، ونحن يمكن أن نساعدهم على بناء موقف صلب». السؤال الكبير يبقى حول ماذا ستجري المفاوضات؟ هنا كان لافتا تبنّي وزراء أوروبيين، علناً، طرح انطلاق التفاوض حول حكومة وحدة وطنية. وزير الخارجية الاسباني جوزيه مانويل مارغالو قال، رداً على «السفير»، إن «المفاوضات التي ستبدأ في 25 الشهر ستكون، كما آمل، بهدف وضع حكومة خلال ستة أشهر، ثم تحسين الدستور وبعدها إطلاق الانتخابات، فذلك سيكون تحركاً جيداً في الوقت المناسب».
المعارضة تتحفظ بشدة على بداية كهذه. تريد التركيز على إنشاء «هيئة حكم انتقالية»، كما أقرها بيان جنيف واحد. لكن هذا العنوان تعرّض لإعادة صياغة، بفعل تغيرات مختلفة، قبل أن يستبدله مسار فيينا، ثم يكرسه القرار الأممي 2254، بالحديث عن الوصول إلى «حكم» حميد الصفات لجهة شمولية تمثيله وعدم تطييفه. المعارضة تقف عند حساسية هذه النقطة، ومن خلفها الرياض وأنقرة والدوحة. ليس فقط لأن البداية ستحدد مسار الانتقال، وجهة موازين القوى فيه، بل لأن عناوين إسقاط النظام واستبداله ستنهار، مرة واحدة، بعد الدخول معه في حكومة جامعة. نظراً لهذه الحساسية الكبيرة، يتجنب الأوروبيون تبني عنوان الحكومة الجامعة علانية. مسؤول أوروبي رفيع المستوى فضّل عدم الصدام، لا مع المعارضة ولا مع الواقع، حيث موازين القوى التي رجّحها التدخل العسكري الروسي بوضوح. حين سألته «السفير» قال، آخذاً مسافة عن التشدد في طرح «هيئة الحكم»، إنه «لا نريد القيام بأي حكم مسبق»، قبل أن يضيف «الهدف هو التفاوض على الانتقال لنظام سياسي ديموقراطي قابل للمحاسبة، هذه مجمل خلاصات فيينا وجنيف، لكن الصيغة الدقيقة لهذا الانتقال سيتم تحديدها خلال المحادثات».
لكن مصدراً أوروبياً آخر، اطلع على نقاشات الوزراء، قال إنه لا مجال للحديث سوى عن حكومة الآن، حتى لو لم يعلن الاتحاد الأوروبي هذا الموقف صراحة. وقال، معلقاً على هذا النقاش، «الواضح أن البداية ممكنة عبر حكومة انتقالية، ثم يأتي بعدها تعديل الدستور والانتخابات»، قبل أن يعلق على تراجع سقف الموقف الأوروبي مشيراً إلى أنه «حتى فرنسا وبريطانيا كانتا قادرتين على تعديل مواقفهما رغم أنها كانت حادة بوضوح، فلماذا لن تتمكن المعارضة من تعديل سقفها؟». حساسية القضية ظهرت بوضوح خلال حديث وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني. حين سألتها «السفير» إن كانت المفاوضات يمكن أن تبدأ من نقطة الحكومة الجامعة، لزمها أكثر من ثلاث دقائق للقول إن تلك هي الخلاصة، ضمنياً، لكنها ستكون نقطة انطلاق مشروطة بأن توصل، في النهاية، إلى إسدال الستارة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد.
الأسد باقِ، فماذا عن السعودية؟
وفق شرحها، الانتقال السياسي يبدأ مع النظام الحالي، يستمر فيما يحكم الدولة، لكنه يفسح أخيراً لتشكيل هيكل جديد للحكم. اعتبرت أن «موقف الاتحاد الأوروبي، حيثما ذكرت الانتقال السياسي، هو بوضوح رؤية أن الأسد لن يكون في مستقبل بلده»، قبل أن تضيف «لكنه كان هناك (الأسد) قبل خمس سنوات، واليوم لا يزال هناك، فيما سوريا لا تزال حيث هي، في كارثة»، في رد مبطّن على من اشترط إبعاد الأسد كمقدمة لأي تفاوض. في تبريرها لهذا التموضع المستمر منذ مدة، قالت إن محطة ختام العملية الانتقالية هي «مكان على الأرجح لن يكون الجميع فيه أصدقاء ويحبون بعضهم، لكن عليهم إيجاد طريقة ليجسدوا معا مصالح السوريين.. ومعالجة الحرب الأهلية وتوحيد القوى ضد داعش، فهو التهديد الحقيقي ليس فقط للشعب السوري لكن لبقية المنطقة وللعالم». لكن حديث وزراء آخرين، أظهر أن الموقف الغربي، إجمالاً، بات مدفوعاً بالتوجس من نيات روسيا. حين سألت «السفير» وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند عن هواجسه مع اقتراب جنيف، قال إنه يخشى قفزاً روسيا، مدفوعاً بالقوة العسكرية، فوق المسيرة السياسية برمتها. رغم حديث هاموند عن «إنجاز بعض التقدم» في مجمل التداول الدولي حول الملف السوري، من جنيف إلى فيينا ثم نيويورك، فإنه استدرك بالقول «من جهة أخرى الوضع الآن أكثر تعقيداً مما كان قبل ستة أشهر، بسبب انخراط القوات العسكرية الروسية في الحرب الأهلية، إنه تطور غير مساعد، لكن آمل، ولا يمكنني أن أكون متأكداً من هذا، أن روسيا ستبقى ملتزمة بالمسار السياسي لكون قواتها تواصل عملها على دعم النظام السوري».
لكن ديبلوماسياً أوروبياً، رافق مشاورات الوزراء، استبعد ذهاب موسكو إلى معركة كسر عظام مع القوى الداعمة للمعارضة. وقال، لـ «السفير»، إن «روسيا لن تدخل في مواجهة مع المجتمع الدولي»، معتبرا أن «روسيا لن تضع العالم أمام خيار: إما الأسد أو سنقاتل حتى الموت. هم يريدون في النهاية ضمانة أكيدة لمصالحهم: قاعدة عسكرية محمية على البحر المتوسط وحكم سوري يضمنون أنه لن يكون معادياً يوماً لروسيا». التوجس من نسف العملية السياسية كان حاضراً في عناوين أخرى. مسؤولون اعتبروا أن أحد الهواجس المسيطرة الآن هي «حماية» مسار فيينا، الجامع للأطراف الدولية والإقليمية، من التأزم بين الرياض وطهران. وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير قال «يجب أن نبذل قصارى جهد كي لا ينفجر الصراع بين إيران والسعودية».
لكن آخرين هوّنوا من هذه المخاوف، خصوصاً تلك التي بنيت على ردات الفعل من إنجاز الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى. وزيرة خارجية الاتحاد كانت تمتدح مفاعيل الاتفاق. سألتها «السفير» عمن يرى عكس ذلك بدليل التوترات الأخيرة، اعتبرت أن بعض ردود الفعل المتوترة مسألة «طبيعية» تأتي «في كل مرة يكون لديك خطوات إيجابية حول الأمن والتعاون»، قبل أن تقول بنبرة حاسمة إن التحويل يتعلق بمسار كامل: «لا شيء يأتي بشكل تلقائي، لكني متأكدة مئة في المئة أن ما انجزناه السبت (في فيينا) هو خطوة كبيرة ومهمة في الاتجاه الصحيح لمصلحة المنطقة، وليس فقط لأمن العالم.. نعلم أن السلام لن يأتي حالاً وبسهولة، كما أن الاتفاق النووي لم يأت حالاً وبسهولة، لكنه جاء في النهاية».